من ذكريات زلزال الحسيمة: ألا ليت هذا الليل لا يأتي..!

عبد الله الدامون

damounus@yahoo.com

عندما تحركت الأرض مجددا في الحسيمة هذه الأيام، تذكرت تلك الفاجعة التي تبدو بعيدة، قبل حوالي 20 عاما، وبالضبط سنة 2004، في زلزال عنيف خلف الكثير من الضحايا، واستمرت المدينة تهتز يوميا عشرات المرات بالزلازل الارتدادية، وهناك اكتشفتُ نعمة عجيبة غير معترف بها، وهي أن يعيش المرء على أرض لا تهتز به، وينام تحت سقف لن يسقط فوقه.

أتذكر وقتها، كيف كانت الحسيمة مثل مرجل يغلي بهزات ارتدادية بعد الهزة الكبرى التي حصدت مئات الضحايا، وكانت تغلي أيضا بعشرات المسؤولين والصحافيين والأجانب وممثلي المنظمات الإنسانية وغيرهم، وكل هؤلاء جاؤوا لكي يرحلوا سريعا، فقط سيبقى سكان خائفون يؤون كل ليلة إلى مخادعهم من دون أن يدروا إن كانوا سيصبحون أم لا، وكثيرون منهم كانوا يغادرون منازلهم المتشققة إلى الفضاءات الرحبة صباحا ولا يعودون إليها إلا بعد أن يرخي الليل سدوله وهم يثاقلون الخطى ويرددون ألا ليت هذا الليل لم يأت أبدا!.. كانوا يخافون الليل أكثر مما يخافون الزلزال.

أتذكر ذات مساء أني وقفت على رصيف شارع يقود نحو أحياء وسط المدينة، وهي أحياء كانت نصف منازلها متشققة والنصف الآخر عليها لافتات “للبيع”، لكن من يشتري الموت!

في ذلك المساء استرعى انتباهي مشهد أم شاحبة أعيتها الحيلة وهي تمسك بيد طفل عنيد قد لا يتجاوز السادسة من العمر. كان الطفل يتمنع في المشي مثل حمل صغير يعرف أنه يساق نحو النحر، وكانت أمه تكابد لكي تقنعه بالمشي.

لسبب ما التقت عيناي مع عيني الطفل، الذي ربما أحس ببعض الخجل من عناده، فطاوع أمه قليلا إرضاء لفضولي، لكنه كان يلتفت باستمرار ويقف وينظر إلي، وكأنه يترجاني أن أجد حلا غير الذي يراد له، أي ألا يعود إلى منزله كل مساء لكي يعيش رعب الزلزال لساعات الليل الطويلة.

فهمت نظرات الطفل وكأننا كائنان فضائيان يتحاوران بغير لغة الكلام. رسمتُ ابتسامة خفيفة للطفل وكأنني أقول له إن القدر هو القدر، وأن الله لن يأخذ روح طفل لطيف وخائف مثله.

لا أعرف جدوى ابتسامتي ورسالتي “الفضائية” للطفل الخائف العنيد، لكن أمه ارتاحت قليلا بعد أن طاوعها أكثر، وسعدتُ بعدها حين لم يمت أحد في الزلزال بعد تلك الأيام.

الزلزال ينبغي أن تعيشه لكي تحس به، لأننا نعتقد أنه يقع للآخرين فقط، تماما مثل حوادث السير القاتلة والأمراض المستعصية.

أتذكر يومها، أني نزلت في فندق بوسط المدينة لم أجد به سوى غرفة في الطابق الأخير، لأن الجميع يفضلون أقرب باب إلى الشارع حتى يكون الهروب أسهل حين تبدأ المدينة بالاهتزاز.

في غرفة الفندق مصباح فوق الوسادة كان يرتعد بين الفينة والأخرى فأدركت أنه لا يفعل ذلك بلا سبب، فأسميته “مصباح ريشتر”، لأنه يرتعد كلما بدأت الأرض بالاهتزاز. كان يُشعرني بالخطر فأغادر الغرفة مسرعا نحو الشارع، لكني بعدها عاتبت نفسي على كل هذا الخوف من الموت، وبعدها يبقى “مصباح ريشتر” يرتعش طويلا ولا آبه، بل إن النافذة الزجاجية كانت تصطك بقوة وتكاد تنفجر فأعيد على نفسي قول المتنبي “إذا لم يكن من الموت بد.. فمن العار أن تموت جبانا”.

قرب غرفتي إسبان تجاهلوا بدورهم الخطر وباتوا يتضاحكون باستفزاز كلما ارتعشت الأرض، فأقول لنفسي كيف أخاف الموت أنا الذي أعتقد أني سأذهب إلى الجنة، ربما، بينما هؤلاء الكفار لا يأبهون بذهابهم الوشيك إلى جهنم..!

الزلزال لا يهز الأرض فقط، بل يهز كل شيء، يهز النفوس والمشاعر والمصالح والماضي والحاضر والمستقبل.

وقتها كنت أترك الأنشطة الرسمية وبهرجة السياسيين وأدلف بعيدا في ضواحي المدينة المنكوبة فأجد أن الستمائة ضحية للزلزال تركت رسالة واضحة لمئات الآلاف من الأحياء الباقين.

كثيرون لم يكونوا يفكرون سوى في الرحيل، وفي داخل المدينة أراد الناس بيع منازلهم بثمن التراب، وكثيرون هاجروا نحو مدن أخرى بصفة نهائية.

حتى المصالح تهتز أكثر مما تهتز الأرض، فيظهر ناهبو المساعدات وأغنياء الزلازل وتجار الخوف ومشعوذو الإيمان وسماسرة الموت.

“سلم ريشتر” لا يقيس فقط درجة اهتزاز الأرض، بل يقيس أيضا درجة اهتزاز النفس البشرية.

إنها ذكريات بعيدة.. أتمنى ألا تتكرر أبدا.. وليحفظ الله أهلنا في الحسيمة.. وفي كل مكان.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )