لهذا السبب سنذهب إلى الجنة..!

عبد الله الدامون

damounus@yahoo.comm

مرة، وأنا أهم بالخروج من باب سوق كبير في ضاحية مدينة مغربية هرول نحوي رجل أشقر قصير القامة بوجْنتين محمرّتين مثل دمية رديئة وسألني إن كنت أتكلم الإسبانية. ابتسمت واعتقدت أنها مزحة من بائع قد أكون اشتريت منه البيض البلدي أمس في قرية مجاورة، لكن الرجل بدا جديا وأثبت لي أنه إسباني بالفعل حين سألني مباشرة كم، بالتقريب، سعر سيارة أجرة بين السوق ووسط المدينة. فالإسباني الحقيقي هو الذي يأتي إلى المغرب ويسأل مسبقا عن ثمن البيصارة قبل تناولها.

أجبت الرجل بأنه لن يحتاج إلى أكثر من ثلاثين درهما. بلع ريقه وقال إنه ركب في الصباح سيارة أجرة لمسافة قصيرة جدا وأخذ منه السائق مائة درهم. أسفتُ من أجله وطلبت منه أن يضع ثقته في الله كلما وصل المغرب. تحدثنا قليلا عن مشاريعه المفلسة في إسبانيا ومشاريعه المتذبذبة في المغرب، وسعد بي لأني زرت مدينته أكثر من مرة. حضرتْ سيارة أجرة فأوقفها وطلب مني أن أوصي السائق به خيرا حتى لا يأخذ منه مائة درهم. فعلت، مثل أي مسلم صالح، ما طلبه مني جاري المسيحي الخائف، وراح كل منا إلى حال.

أعرف أن هذا الرجل الطيب، عندما يعود إلى بلاده، سيتحدث عشرات أو مئات المرات، عن المائة درهم التي أخذها منه سائق سيارة أجرة مغربي من دون وجه حق، وربما سيسرد حكايات أخرى حدثت له في المغرب، وسيستمع له أصدقاؤه ومعارفه بإمعان، وسيحمدون الله لأنهم لم يذهبوا إلى المغرب، ولا أعرف إن كان جاري المسيحي سيذْكرني بخير ويقول لأصدقائه إنه التقى مغربيا جيدا شفع له لدى سائق سيارة أجرة وطلب منه ألا يأخذ منه إلا ما هو منصوص عليه في الشرع والقانون.

زرت إسبانيا عشرات المرات، منذ زمن عملة “البيسّيطا” الرخيصة إلى زمن “اليورو”، وركبت عشرات من سيارات الأجرة ولم أحس يوما بالخوف من شيء ما ولم أطلب شفاعة من إسباني لدى سائق طاكسي حتى يعاملني بالمعروف. هناك، سائق سيارة الأجرة يريدك أن تحس بالأمن والأمان منذ أول لحظة لركوبك، وحين تنزل من السيارة تحس وكأنك تودع صديقا عزيزا.

لو طال بي الحديث مع جاري الإسباني لأخبرته بأننا أيضا نخاف هنا، في بلدنا، ليس من سائق الطاكسي فقط، بل من سائقي كل شيء، لأن الذين يمسكون بمقود البلاد يتعاملون معنا وكأننا شعب قاصر، يقودوننا إلى أي مكان يريدون في أي وقت يشاؤون وبالسعر الذي يحددونه.

كان بودي، أن أطمئنه عن أحوالنا وأسرد له حكايات كثيرة تحدث لنا فيما بيننا نحن معشر المسلمين الصالحين جدا، وأسرد له، من باب الطرافة فقط، عن يوم اشتريت فيه كيلوغراما من الكرز، أو حب الملوك، بخمسين درهما، وعاملني البائع المغربي، وكأنه أعطاني صدقة، حتى خجلت من نفسي وفكرت أن أبعث للبائع برقية شكر، وفي النهاية اضطررت لرش الكرز بالسكر حتى أستطيع أكله.

بعد ذلك بأسبوعين وجدتُني في مدينة “بلباو” بشمال إسبانيا، وبالصدفة رمقت محلا لبيع الفواكه وفي الواجهة صندوق كرز به حبات حمراء فاقع لونها بحجم البيض البلدي. قررت الانتقام من الكرز المغربي واشتريت نصف كيلوغرام بأورو واحد، الحبة منه كقطعة عسل، بينما البائع يتبعني بالشكر حتى تخيلت أنه سيبعث لي برقية عرفان وامتنان. في مثل هذه الحالات أتذكر عبارة صديق حكيم عادة ما يكررها كلما وطأت رجله أرض أوربا وهي “ها نحن على أرض الإسلام”..!

لو طال بي الحديث مع جاري المسيحي الغاضب من سلبه مائة درهم في سيارة أجرة لأخبرته بما حدث قبل أيام فقط، حين كنت جالسا على رصيف مقهى، فخرج مريض من العمارة المجاورة تدفعه ممرضة على كرسي متحرك. وحين كانت الممرضة مشغولة بإركاب المريض السيارة جاء شخص ما، وبكامل الثقة، دفع الكرسي المتحرك إلى مكان ما ولم يشك أي واحد للحظة أنه يمكن أن يكون لصا، لكن الأمر كان كذلك بالفعل، وحين عادت الممرضة لأخذ الكرسي المتحرك أصيبت بصدمة، ليس لغلاء سعر الكرسي المتحرك، بل لأنها، ونحن معها، لم نر يوما لصا يسرق كرسيا متحركا.

لو شئتُ أن أشرح لجاري المسيحي ما نفعله ببعضنا لكلفني ذلك أياما من الثرثرة، لكني أكتفي بأن أوجه له ولغيره من النصارى نصيحة بألا يخافوا منا نحن المسلمين، فنحن، أيضا، نصاب بالرعب من بعضنا البعض، يفترسنا اللصوص الكبار فنفترس بعضنا بعضا، ومع ذلك فإننا سنذهب إلى الجنة والنصارى سيذهبون إلى النار. هم يعيشون الجنة في الأرض لذلك سيذهبون إلى جهنم، ونحن نعيش جهنم في الأرض لذلك سنذهب إلى الجنة. هذا شيء منطقي جدا لذلك أقنعونا به ولن نرضى عنه بديلا.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 1 )

  1. m-Ach :

    يا لها من صدفة جميلة قادتني الى مقالات الصجفي الفذ سي عبد الله الدامون حفظه الله من كل سوء
    نوستالجيا ايام عمود يومية المساء كنت مدمنا ومتلهفا لان شكل ومضمون العمود غاية في الروعة وهو تصوير دقيق وصادق لواقعنا الماساوي للاسف مع الكثير من التشويق والمتعة والاقناع

    تحية خالصة وتقدير كبير

    0