مريم مشتاوي مات ريان. نعم مات بعد أن حبس أنفاس العالم العربي وشغل الصحافة العربية والأجنبي، وهي تنتظر خروجه من البئر العميق، بعد أكثر من خمسة أيام من الحفر في منطقة صخرية محفوفة بالمخاطر. من هو ذلك الصغير الذي أجمع العالم على محبته؟ من هو ذلك الملاك الذي وقع في بئر لتستفيق الإنسانية وتتدفق مرة واحدة؟ ريان هو أوطاننا العربية المنكوبة: هو لبنان وسوريا والعراق واليمن. بلداننا الواقعة في آبار من الآلام والتعاسة والبؤس ولا أحد قادر على إخراجها منها. من حرب إلى أخرى ومن موت إلى آخر ومن ديكتاتور إلى ديكتاتور أسوأ ومن سلطة فاسدة إلى سلطة أشد لؤماً وفساداً. ريان هو أطفال المخيمات وكل أطفالنا المعذبين في عالمنا العربي المتوحش، هو كل الأطفال العالقين في آبار منسية، المحاصرين بالثلوج والصقيع، المكبلين بعجزنا أمام دموعهم البريئة. ومع ذلك هؤلاء الأطفال هم من رفعوا بأياديهم الصغيرة التي ترتجف برداً صور ريان متضامنين مع وجعه. هل هناك مشهد يلهم الإنسانية أشد تأثيراً من براءة أطفال يتناسون آلامهم ويترفعون عنها، معبرين عن حزنهم على طفل آخر لم يلتقوا به يوماً؟ نعم لم يلتقوا به، لكنهم يعرفونه أشد المعرفة! إنه شقيقهم في الآلام. ريان هو أيضاً الطفل السوري فواز القطيفان: طفلنا الأول وقع في البئر، نتيجة لخطأ الطبيعة أما طفلنا الثاني فقد اختطفته عصابة سلطوية أغرقت المنطقة بأسرها في بئر أعمق من بئر ريان! فواز ما زال عالقاً في بئر عذابه اليومي مع عصابة من الوحوش، عصابة من فصيلة الديناصورات، عصابة يمكن تشبيهها بأي شيء عدا الإنسانية. من شاهد فيديوهات التعذيب التي نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لا بد أن يصاب بصدمة نفسية. مشاهد قاسية لا يمكن لإنسان سوي متابعتها لأكثر من ثوان معدودة لشدة البشاعة والإجرام. صوته وهو يصرخ “مشان الله لا تضربوني”، كافياً أن يشعرنا بالعجز والتفاهة. شعرت وأنا أم لثلاثة أطفال برغبة في الصراخ عالياً: كفى! كفى تنتهكوا أجساد وأرواح أطفالنا. ما عادت قلوبنا تحتمل كل هذا الكم من القهر والبشاعة. إن كانت هذه الكرة الأرضية لكم. خذوها. ما عدنا نريد منها شيئاً، ولا رغبة لدينا بمشاركتكم لا أرض ولا هواء. احفروا لنا طاقات صغيرة ولنقفز منها أحياء أو أمواتا. ريان ابن جميع الأمهات العربيات: ما أعظمك يا أم ريان كيف أنجبت ابناً من رحمك وزرعت فيه كل هذا النور لينفخ روحه في أحشاء أمهات الأرض جميعهن فنعيد إنجابه مرة ثانية وثالثة ورابعة في مخاض عسير؟ يا ابني كيف نرثيك وللتو أنجبناك؟ عزاؤنا الوحيد أنك فتحت في الأرض بئراً عميقاً من نور، وأن دموعنا ستبقى عالقة في كفك الصغيرة. أما أنت يا أم ريان فالسلام لقلبك يا ممتلئة بالنعمة. مباركة أنت بين النساء. ومباركة ثمرة بطنك. مباركة مباركة. والسلام لكل من انتظر خروج صغيرك من حفرته. ولكل من صلى لأجله. أو أضاء شمعة. مات ريان ليوحدنا ولو ليوم واحد. مات ليذكرنا بأن المحبة وحدها تجمعنا ولا شيء سوى المحبة. عشرون سنة من التشرد! ومن لوعة الصغار إلى معاناة المسنين و تشردهم، العم محمد صلاح أو “الحاج” محمد، لقبه المفضل وجه من وجوه كثيرة تفترش الشوارع في بلادنا. عمره 60 سنة وحلمه الوحيد أن ينتقل إلى مكان آمن، إلى غرفة دافئة تقيه العواصف وأخطار الليل، بعد أن عاش في الشارع لمدة 20 سنة بعد وفاة زوجته وطرده من الشقة التي كان يقطن فيها مع عائلته. يتحايل على أوجاعه وهو يتقلب فوق ألواح من خشب ينام عليها في أحد شوارع مصر ويسميها “عشة”. يخشى المطر، ولكنه أحاط نفسه بغطاء بلاستيكي يخفف شيئاً من شر الشتاء وذله. لا يستطيع الوقوف بسهولة بسبب أوجاع شديدة في البطن، ومع ذلك عشته الصغيرة تبدو مرتبة ونظيفة. له ابن وحيد يدعى وليد، يعاني من صرع في الرأس ولا يعرف له مكاناً. العم محمد، رغم آلامه يحمد ربه على حاله ويبتسم بين الحين والآخر ابتسامة رضا وتسليم، معبراً عن محبته واحترامه لكل الناس المحيطين فيه. انتشرت قصته على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن صادفه مراسل قناة “اليوم السابع” المصرية وألقى الضوء على معاناته، في برنامج يتابع حال الفقراء والمشردين في الشوارع، بهدف الوصول إلى قلوب رحيمة تساعدهم. برنامج إنساني ترفع له القبعات. لكن إن لم تكن أساساً وظيفة الإعلام نقل هموم الناس والتعبير عنهم، فماذا تكون؟ وما أشد حاجتنا اليوم لبرامج كثيرة مماثلة في زمن تفقد فيه السلطة الرابعة هيبتها. في زمن أصبح الفقر والتشرد والجوع حال أغلب المواطنين في بلاد عربية باتت تستمرئ النكبات!