دبلوماسية ضد الإنسانية: بعد كل فشل جزائري البسطاء يدفعون الثمن

المساء اليوم – حسنية أسقال:

لم يكن متوقعا أن يكون رد فعل الدبلوماسية الجزائرية إيجابيا على الخطاب الملكي الأخير، الذي دعا فيه الملك محمد السادس الجزائر إلى التعاون لنبذ الخلافات وبناء مغرب عربي آمن مستقر، وإعادة فتح الحدود بين البلدين.

المسؤولون الجزائريون أخذوا لأنفسهم كل الوقت اللازم، وعوض أن يجيبوا هم على دعوة الحوار مع المغرب، فإنهم كلفوا جبهة البوليساريو بالرد، والتي دبجت بيانا ناريا يتهم المغرب بالاحتلال والتوسعية وانعدام الإنسانية.

بعدها خرج الرئيس الجزائري بتصريحات تتجنب صلب الموضوع، لكنها تتماهى مع بيان البوليساريو، الذي لا يستبعد أنه صيغ في وزارة الخارجية الجزائرية.

لكن المدركين للسياسة الرسمية الجزائرية لن يفاجئهم هذا السلوك، فدعم البوليساريو أو إغلاق الحدود من ضمن “منجزات” قطع الأرزاق للدبلوماسية الجزائرية، التي برعت في ذلك بتفوق كبير. 

مأساة الأربعين ألفا

“الدولة العميقة” في الجزائر، وطوال العقود الأخيرة، جعلت من العداء للمغرب أحد أبرز ثوابت سياستها الخارجية، ولم تتوان عن افتعال الأزمات سواء في العلن أو الخفاء، آخرها طرد مزارعي تمور واحة فكيك ومنح جواز سفر جزائري مزور لزعيم البوليساريو إبراهيم غالي، وأبرزها على الإطلاق طرد ما يقرب من 45 ألف عائلة مغربية من الجزائر نحو المغرب، في 18  من دجنبر 1975، في “عملية تهجير قسري”.

هذه الأزمة، غير المسبوقة والخطيرة، أسالت الكثير من المداد ولا زالت، وذلك لما صاحبها من أذى كبير لآلاف الأسر المغربية، الذين جردوا من ممتلكاتهم وأموالهم وأجبروا على الخروج بما يرتدونه من ملابس فقط صباح يوم العيد، عيد الأضحى، بعد أن خيروا بين الاعتراف بجبهة البوليساريو وتقديم الدعم المالي لها، أو الترحيل دون مسوغات منطقية، ولأسباب سياسية لا يد لهم فيها.

لكن مسألة إرغام العائلات المغربية في الجزائر على دعم البوليساريو مجرد ذريعة.. كان النظام الجزائري يأمل في جعل الخمسين ألف مغربي عصا إضافية في عجلة النظام المغربي، أي الملكية، التي كانت تعاني وقتها من تعدد جبهات المواجهة، داخليا وخارجيا،

لذلك من العبث الاعتقاد أن الأمر يتعلق بمدى قبول أو رفض مغاربة الجزائر دعم البوليساريو معنويا وماديا، فالنظامين الجزائري والليبي، كان يضخان في جيوب الجبهة الانفصالية الكثير جدا من الأموال.. لذلك كان القرار واضحا منذ البداية، وهو طرد أكبر عدد ممكن من المغاربة في ظل ظروف إنسانية مزرية، ومنعهم حتى من تغيير ملابسهم، فما كان يهم أكثر هو تحميل “النظام العدو” في المغرب العبء الاقتصادي الصعب لهذه التراجيديا.. وربما يكون ذلك، قطرة إضافية في كأس الصراع الشرس داخل السلطة والمعارضة بالمغرب وإسقاط النظام نهائيا، وهو ما كان يسمح بإعادة الحسابات الإقليمية بكاملها، وعلى رأسها إقامة دولة في الصحراء لصالح البوليساريو بسهولة مطلقة.

كانت مأساة الأربعين ألفا ردا مباشرا وفوريا للسلطات الجزائرية على تنظيم المسيرة الخضراء، وهو سلوك سيتأكد بعد ذلك أنه يطبع عمل السلطات الجزائرية كلما بادر المغرب إلى تحقيق مكسب دبلوماسي إقليمي أو دولي. فالجزائر تعمد إلى تكبيد البسطاء نتيجة أي إنجاز دبلوماسي مغربي، وهو ما تأكد في عدد من الحالات اللاحقة. 

“المسيرة الكْحلة”

كان طرد قرابة خمسين ألف أسرة مغربية من الجزائر حدثا مأساويا بمقاييس عالمية. صحيفة “إيل باييس” الإسبانية قالت وقتها إن الجزائر قامت بهذه الخطوة كرد فعل انتقامي من المغرب بعد توقيعه “اتفاقية مدريد” في 14 نوفمبر 1975، والتي بموجبها استعاد المغرب السيادة على أقاليمه الجنوبية، ووصفت الصحيفة ما جرى بـ”الوحشي والمؤلم”، مشيدة بموقف المغرب من الأزمة، مضيفة أنه “لحسن الحظ، الرباط لم تلجأ لنفس المنطق الانتقامي للجزائر، وتجنبت طرد ما يقرب من 22 ألف جزائري كانوا يعيشون حينها على أراضيها”.

بعض المهجرين المغاربة سردوا ما مروا به، من خلال كتابات وأفلام وثقت بطريقة أو أخرى ما حدث حينها. من بين هؤلاء محمد الشرفاوي مؤلف كتاب “المسيرة السوداء”، الذي حكى شهادة شخصية وذاتية، له ولعائلته، قائلا إنه “لم يستطع أن يحكي ما وقع في تلك الفترة لأولاده حتى توفيت والدته في 2005، حينها قرر أن يؤرخ الألم الذي عاشوه وشاطرهم إياه 45 ألف عائلة”.

ومما جاء في مقدمة الكتاب التي كتبتها فتيحة السعايدي، عضو مجلس الشيوخ في بلجيكا ومن إحدى العائلات المغربية المطرودة، أن “طريق الذاكرة طويل، لكن يجب سلكها”، وهو ما دفعها إلى التفكير في كون هذه المعاناة يجب أن توثق ويتم جمع شهادات من عاشوا تلك المرحلة.

المخرجة المغربية نرجس النجار، وثقت لهذه المأساة في فيلمها “المشرد”، الذي ألقى الضوء على القضية من خلال تتبع قصة فتاة تم طردها وعمرها لا يتجاوز 12 سنة مع والدها إلى المغرب، فيما أرغمت أمها على البقاء في الجزائر، لتعيش الفتاة مأساة إنسانية كبيرة بسبب فراقها لأمها.

“أنا أحمل صمت الألم الذي يعتمل في نفوس أبواي والأسر المطرودة من الجزائر”، بهذه الكلمات قدم الكاتب والشاعر الهاشمي الصالحي كتابه (منطق الطيور المطرودة(. الصالحي سعى من خلال كتابه، الصادر بالفرنسية تحت عنوان “La conférence des oiseaux expulsés”، أن يوثق الأحداث “ضد النسيان ومن أجل الحق الأخلاقي غير القابل للتصرف وللتقادم، فهو حق أبدي”.

نشطاء المجتمع المدني وحقوقيون يسعون بين الفينة والأخرى لتقليب صفحات هذه القضية الإنسانية وبحث مداواة جراحها، مؤكدين أن مطالب ضحاياها تتلخص في “استعادة الكرامة من خلال اعتذار الجزائر عن خطئها، وتعويضهم ولو معنويا عما عانوه جراء التهجير”، اعتذار طال انتظاره لأكثر من 40 سنة، وإن حصل فإنه سيكون نقطة بداية لتحرر الجزائر من عقدة المغرب المتجذرة في نفس “دولتها العميقة”.

بغل واحد أقفل الحدود

مثال ما حدث بعد المسيرة الخضراء سيتكرر بطريق مختلفة قرابة عشرين عاما بعد ذلك، حين ستعمد السلطات الجزائرية على الإغلاق الأبدي للمعبر الحدودي الرئيسي بين البلدين، “جوج بغال”، أو معبر الوحدة حسب اسمه الرسمي.

في صيف 1994 شهدت مدينة مراكش تفجيرات إرهابية في فندق سياحي أدت إلى وقوع ضحايا، وتأكد، بعد تحقيقات أمنية، وقوف مواطنين جزائريين خلفها. وقتها قرر المغرب فرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين مؤقتا. لكن الرد الجزائري الرسمي لم يتأخر، فقد قررت الحكومة الجزائرية، فورا، اتخاذ قرار أحادي بإغلاق الحدود المغربية الجزائرية.

بعدها بوقت قصير قرر المغرب إلغاء التأشيرة على المواطنين الجزائريين، وفق ما كان مقررا سلفا، لكن السلطات الجزائرية قررت الإبقاء الدائم على إغلاق الحدود المغربية الجزائرية.

قطع الأرزاق والأرحام

كان للقرار الجزائري مفعول كارثي على الجانبين، المغاربة والجزائريين. فقد انتهى كليا الرواج التجاري في المناطق الحدودية، وانقطعت صلة الأرحام بين العائلات المغربية والجزائرية، وتحول التنقل بين البلدين إلى حالة سريالية تتطلب مجهودا كبيرا، وأحيانا تصبح المحاولات شبه مستحيلة.

كان للقرار الجزائري بإغلاق الحدود وقع كارثي من الجانب الاقتصادي أيضا، على المغاربة والجزائريين على السواء. ولم يعد بإمكان عدد كبير من الجزائريين دخول المغرب برا من أجل التسوق، خصوصا في وجدة والمناطق القريبة، وتوقفت الأنشطة التجارية بشكل شبه كامل، وأصبح مئات آلاف الجزائريين يفتقدون لسلع أساسية لا يجدونها في غير الجانب المغربي، وافتقد آلاف المغاربة رواجا تجاريا وسياحيا لم يكن يجدونه سوى في الجانب الجزائري.

القرار الجزائري بإغلاق الحدود قطع الأرزاق والأرحام، ومن الغريب أن يكون السبب هو محاولة المغرب الحفاظ على أمنه، لكن أمن المغرب كان يعتبر للجزائر تفوقا غير مستساغ، في وقت كانت الجزائر لا تزال تغرق في مشاكل أمنية خطيرة، هي أشبه بالحرب الأهلية، لذلك كان تمتع المغرب بالاستقرار هو أكبر “هزيمة” للجزائر.

“مول المقص.. وصْحاب المنشار”

مرت سنوات طويلة لكي تعيد الجزائر اختبار آلتها الجهنمية في قطع الأرزاق والأرحام مع كل انتصار دبلوماسي مغربي. فقبل أشهر قليلة، قررت السلطات الجزائرية طرد مئات الفلاحين المغاربة من أراضي زراعية كانوا يستغلونها داخل التراب الجزائري في منطقة “العرجات”، شرق منطقة فكيك المغربية، والسبب لم يكن غريبا، فقد جاء بعد أسابيع قليلة من تحقيق المغرب المكاسب دبلوماسية غير مسبوقة في الصحراء.

كان المكسب الكبير هو اعتراف الإدارة الأميركية بمغربية الصحراء، والمكاسب الأخرى كان افتتاح عدد من القنصليات الأجنبية في مدينتي العيون والداخلة، وتحرير معبر الكركرات الحدودي من عربدة مليشيات البوليساريو.

وخلال افتتاح القنصليات الأجنبية في الصحراء، كان مثيرا أن يحمل وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، لقب “مول المقص”، في إشارة إلى قصه لأشرطة قنصليات كثيرة، وهو ما جعل الجيران في الجزائر يعودون إلى إتقان السلوك الذي اعتادوه دائما، أي حمل المنشار وقطع الأرزاق، فكان المنشار الذي يقطع الرزق ردا على المقص الذي يفتتح القنصليات.

ووفق رواية الحكومة الجزائرية فإنها سعت لاستعادة أراض تابعة لها، بمقتضى اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين في السبعينات، والتي نصت على أن منطقة “العرجات” أرض جزائرية، رغم أن مستغليها منذ 50 سنة هم مواطنون مغاربة.

غير أن القراءة المنطقية والواقعية لهذا القرار المفاجئ والغريب تشير إلى أن تحرك السلطات الجزائرية في هذا التوقيت جاء في سياق الضغط على المغرب، بعد المكاسب الدبلوماسية في الصحراء، وأيضا بعد تدخل القوات المغربية في الكركرات على الحدود مع موريتانيا في 13 نوفمبر الماضي لتحريرها من عناصر جبهة البوليساريو، الذين خرقوا وقف إطلاق النار الموقع قبل أزيد من ثلاثين عاما. كما أن القرار الجزائري جاء بعد قيام القوات المغربية بتمديد الجدار العازل في الصحراء المغربية ليصل بالقرب من الحدود مع الجزائر.

لقد استمرت الجزائر وفية لنهجها القديم، أي قطع أرزاق البسطاء عند كل هزيمة دبلوماسية تمنى بها، أو عند كل هزيمة عسكرية تحيق بالبوليساريو، فصار البسطاء يؤدون، باستمرار، ثمن أية هزيمة دبلوماسية أو عسكرية للجزائر أو لحليفتها البوليساريو.

أضف تعليقك

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)

تعليقات ( 0 )