ياسين الطالبي العبد الذي لا يعلم أنه عبد هو من وقع في أعقد أنواع العبودية، عبودية غير محسوسة، غير ملموسة، لكنها أكثر فعالية من كل أشكال القهر المباشر التي عرفها التاريخ. العبد الذي يدرك قيده يملك فرصة للمقاومة، لكنه حين يُبرمَج منذ طفولته على أن هذا القيد هو الحياة الطبيعية، فإن وعيه يُختزل داخل الإطار الذي فُرض عليه، فلا يعود قادرًا حتى على تخيُّل إمكانية التحرر. هذا ليس مجرد استعباد للبدن، بل هو استعباد للعقل، وهو الأخطر، لأن من يُسلب عقله لا يحتاج إلى من يفرض عليه القهر، بل هو من يفرضه على نفسه، معتقدًا أنه يختار، بينما كل اختياراته قد تم توجيهها مسبقًا، مثل برنامج مُعدّ مسبقًا ليؤدي وظيفة محددة دون أن يدرك أنه لا يملك حرية التعديل على شفرته الأصلية. التحليل النفسي لهذا النوع من العبودية يكشف عن منظومة نفسية عميقة، تبدأ من التربية، حيث يُلقَّن الطفل منذ نعومة أظافره أن هناك مسلمات لا يجب أن تُمس، مفاهيم تُغرس في عقله كحقيقة مطلقة، بينما هي في الواقع آليات ضبط غير مرئية. وهكذا، يكبر الفرد معتقدًا أن "النظام" الذي يعيش فيه هو الشكل الطبيعي الوحيد للحياة، وأن أي محاولة للخروج عنه ليست مجرد تحدٍ له، بل خروجٌ عن المنطق ذاته. هذا التلقين يخلق لديه خوفًا غريزيًا من المجهول، فيفضل البقاء داخل قفص مألوف على أن يغامر باستكشاف عالم بلا حدود واضحة. هنا تظهر واحدة من أخطر آليات السيطرة النفسية: "الخوف من الحرية". الإنسان الذي يعيش داخل أنظمة قمعية، حتى لو كان يمتلك فرصة للتحرر، غالبًا ما يرفضها، لأنه يجد في الحرية عبئًا لا يحتمله. العبودية تمنحه يقينًا مريحًا، تخبره بما عليه فعله، تمنحه إجابات جاهزة، بينما الحرية تعني أن عليه مواجهة الفوضى، أن عليه بناء عالمه بنفسه، أن عليه أن يتحمل مسؤولية ذاته بالكامل. لهذا السبب، فإن أغلب الناس، حتى حين تُكسر قيودهم، يسارعون للبحث عن سيد جديد، عن نظام جديد يضع لهم الحدود، عن أيديولوجيا تمنحهم يقينًا بديلًا عن الذي فقدوه. وهنا يكمن جوهر العبودية الحديثة: هي لا تفرض القيود بالقوة، بل تجعل الإنسان يرغب فيها، يحميها، يقدّسها، ويقاوم من يحاول كشفها له. بل إنه، في لحظات كثيرة، يعاني من متلازمة ستوكهولم تجاه السلطة التي تتحكم به. متلازمة ستوكهولم هي الحالة النفسية التي تجعل المختطف يتعاطف مع خاطفه، بل ويدافع عنه، لأنه يشعر بأنه بدون هذا الخاطف لا يملك هوية، لا يملك معنى لوجوده. الإنسان اليوم يعيش في حالة مشابهة: يحب قيوده لأنها تمنحه شعورًا زائفًا بالأمان، يرى الدولة، النظام، المؤسسات، الاقتصاد، الإعلام، على أنها كيانات محايدة أو حتى ضرورية، بينما هي في الواقع أدوات لإدارته، لضبط سلوكه، لتوجيهه نحو الأهداف التي تخدم النظام القائم، وليس حريته الفردية. لكن العبودية الحديثة لا تعمل فقط من خلال الخوف، بل من خلال الإلهاء. في العصور القديمة، كان العبد يُقهر بالسوط، أما اليوم فهو يُقهر بالتسلية، بالغرق في تفاصيل حياتية لا تترك له وقتًا للتساؤل عن واقعه. التكنولوجيا الحديثة، الإعلام، صناعة الترفيه، كلها آليات مصممة بدقة ليس فقط لإبقاء الناس مشغولين، بل لجعلهم مشغولين بأشياء تافهة، حتى لا يكون لديهم الوقت أو الطاقة العقلية للتفكير في القضايا الكبرى التي تحكم حياتهم. كلما شعر العبد بالضغط الداخلي، وُجدت له آلية تصريف: رياضة، أفلام، أخبار سطحية، جدالات لا تنتهي على مواقع التواصل، كلها حلقات مفرغة تمنحه وهم الحرية بينما هو يدور في دائرة لا نهاية لها، مثل فأر يركض على عجلة دوارة يظن أنه يتقدم، لكنه في الحقيقة لا يذهب إلى أي مكان. التحليل النفسي يُظهر أن الإنسان يميل إلى تبرير وضعه الحالي، مهما كان سيئًا، إذا كان البديل غير واضح. في تجربة شهيرة في علم النفس الاجتماعي، وُضع أشخاص في غرفة مغلقة، ثم بدأ الدخان يتسرب إليها ببطء. أغلب المشاركين لم يحاولوا الهروب، لأنهم نظروا إلى من حولهم فلم يجدوا أحدًا يتحرك، فافترضوا أن لا شيء خطير يحدث، رغم أن الغرفة كانت تمتلئ بالدخان. هذه التجربة تفسر لماذا يستمر الناس في العيش داخل أنظمة غير عادلة، لأنهم ينظرون حولهم ولا يرون أحدًا يتحرك، فيظنون أن الوضع طبيعي، رغم كل الإشارات التي تدل على العكس. النظام القائم يعلم ذلك، ولذلك يضمن دائمًا أن تكون الجماهير مشغولة، محاصرة داخل دوائر اجتماعية، اقتصادية، نفسية، تجعلها غير قادرة على رؤية الدخان وهو يملأ الغرفة. لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن العبد الذي لا يعلم أنه عبد، حين يواجه الحقيقة، فإنه يرفضها بعنف، لأنها تهدد استقراره النفسي. عالمه كله مبني على وهم الحرية، فإذا قيل له إنه ليس حرًا، فإنه لا يشعر بأنه اكتشف الحقيقة، بل يشعر بأنه تعرض لهجوم شخصي، ولهذا يدافع عن سجانه كأنه يدافع عن نفسه. سيقول لك: "لكنني أستطيع أن أختار"، دون أن يدرك أن كل الخيارات التي أمامه قد صممت مسبقًا، سيقول لك: "لكنني أعيش في ديمقراطية"، دون أن يفهم أن الديمقراطية لم تعد سوى نظام مُبرمج ليعطيه وهم المشاركة، بينما القرارات الحقيقية تُتخذ في أماكن لا يصل إليها، سيقول لك: "لكنني حر"، دون أن يدرك أن الحرية الحقيقية ليست في الحركة داخل القفص، بل في القدرة على رؤية القفص ذاته. إن أخطر ما في العبودية الحديثة ليس أنها تمنع الإنسان من الحرية، بل أنها تمنعه حتى من إدراك حاجته إلى الحرية. إن العبد الذي لا يرى قيده لن يسعى أبدًا إلى كسره، بل سيعيش حياته كلها مدافعًا عنه، معتقدًا أنه ليس سوى جزء من طبيعة الأشياء، كما تعتقد السمكة أن الماء هو الكون كله، وكما يعتقد الإنسان الحديث أن النظام العالمي الذي يعيش فيه هو النظام الوحيد الممكن. لكن الحقيقة هي أن هذا النظام ليس سوى بناء تاريخي، وُضع لأهداف محددة، ويمكن أن يتغير متى أدرك الإنسان أن حياته ليست مجرد معادلة مُعدّة مسبقًا، بل تجربة يجب أن يكون هو من يحدد قوانينها، لا أن يُترك لأوهام صُنعت من أجله ليعيش داخلها دون أن يدرك أبدًا أنه لم يكن يومًا حراً. وحين تصبح العبودية غير مرئية، يجد الإنسان نفسه في معارك لم يخترها، يدفع حياته لأجل قضايا لم يفهمها، ويقتل أو يُقتل في ساحات لم يكن يعرف حتى أسماءها. يوقظونه ذات يوم ليخبرونه أن عدوه هو ذاك الذي لم يكن بينه وبينه أي خصومة، يملأون رأسه بشعارات عن الشرف، عن الهوية، عن معارك مقدسة لم يكن له فيها رأي، وحين يسأل لماذا، يكون الجواب جاهزًا: "لأن هذا هو الصواب"، لكن من حدّد هذا الصواب؟ ومن قرر أن مصيره هو الموت على أرض لم يسمع بها من قبل، وهو يحمل راية لم يكن يعرف معناها بالأمس القريب؟ هكذا تتحول الشعوب إلى أدوات، يُعاد تشكيل وعيها ليصبح جزءًا من سيناريو أكبر لم تكن طرفًا في كتابته، وحين يبدأ النزاع، لا يكون هناك وقت للتساؤل، لأن الحرب تطلب سرعة الرد، والعدو قد تم تعيينه سلفًا. في يومٍ ما، قد يكون هذا العدو شيوعياً، وفي يوم آخر قد يكون كافراً، أو طاغوتاً، أو حتى مجرد شخصٍ من طائفة أخرى، لكن المعادلة واحدة: أنت هنا لأن النظام أرادك هنا، لأن هناك من قرر أن دمك جزءٌ من حسابات لا تراها، وأن جسدك يجب أن يكون وقوداً في صراع لم تفهم أسبابه. هكذا تجد نفسك تُقاد إلى ساحات لم تكن لك، تردد شعارات لم تخترها، ترفع سلاحك ضد من لم يكن بينك وبينه سوى الجهل المتبادل، ثم تسأل نفسك متأخرًا: كيف وصلتُ إلى هنا؟ لكنك لم تصل وحدك، بل أُخذت إلى هنا بخطوات غير مرئية. تبدأ هذه الرحلة منذ اللحظة التي تعتقد فيها أن العالم من حولك يتشكل وفق إرادتك، بينما الحقيقة أن إرادتك ليست إلا ظلاً لقرارات صُنعت قبل أن تولد، قرارات اتُخذت في مكاتب مغلقة، حيث يقرر رجال لا تعرف أسماءهم مصير شعوب لا يعرفونها، لكنهم يعرفون شيئًا واحدًا: كيف يحولونك إلى أداة، كيف يجعلونك تعتقد أن الطريق الوحيد أمامك هو الذي رسموه لك، كيف يزرعون في داخلك وهمَ البطولة حتى تصبح مستعدًا لأن تموت بلا مقابل، بينما هم يحصدون الأرباح. ولهذا، فإن الحرب لم تعد نزاعًا بين دول، بل أصبحت مشروعًا اقتصاديًا، سوقًا للدم، حيث يتحول الإنسان إلى سلعة، حيث القتلى مجرد أرقام في تقارير تُرفع إلى المستثمرين، حيث كل صراع هو فرصة لمزيد من الهيمنة، حيث لا يهم من ينتصر، لأن النظام لا يخسر أبدًا، بل يعيد تشكيل الخرائط ويبدأ جولة جديدة. لكن الأخطر ليس أن هذه الحروب تندلع، بل أن الناس يقتنعون بها، يدافعون عنها، يموتون من أجلها، وكأنها أقدار لا يمكن تغييرها. يسيرون نحو مصيرهم بملء إرادتهم، يختارون حتفهم وكأنهم يمارسون الحرية، لكن الحرية الحقيقية ليست في اختيار أي قيد ترتدي، بل في القدرة على رؤية القيد ذاته. وهكذا، تتكرر الدورة، جيلٌ بعد جيل، حربٌ بعد حرب، يتغير الأعداء لكن القواعد تبقى كما هي، يقتلون بعضهم، يشعلون النار في أوطانهم، يمزقون مجتمعاتهم، بينما في مكان بعيد، حيث لا تصل أصوات المدافع، يجلس أولئك الذين صنعوا اللعبة، يتابعون المشهد كمن يشاهد فيلماً طويلاً يعرف نهايته مسبقًا.